تسعة وتسعون حجاباً قراءة في أنساق المعنى وحيثيَّات التلقي – أسامة الشحماني Ninety-nine veils – Usama Shamani

   يصنِّف ميشيل فوكو جلَّ ما يمارسه الكتاب في مشغل النقد الأدبي اليوم تحت مسمَّى المواعظ المضجرة الداعية للغثيان، فهم بالنسبة له لا يقتنصون شيئاً في النص، ولا يضرمون أيَّ شرارة في حطبه، بل يجعلونه مسرحاً حرّاً لتداولِ أحكامٍ ممِّلة ما زال روّادها يؤثرون ارتداء روب القاضي ويصرون على وضع الآخر بين زوايا قفص الإتهام.1 على إنَّ المشاغل النقدية الراهنة، وبعد التحولات العميقة التي طرأت على أساليب وطرائق القراءة والتلقي تحاول الابتعاد عمَّا صنَّفه فوكو، ولاسيما حيِّز جزافية الأحكام أو المواجهات والسعي لمصادرة الآخر. فالنقد معنيٌ الآن باعادة الاعتبار لما للقاريء من مسلَّمات يمكنه عبرها أن يستشفَ ما أثارَهُ في نصٍ ما ليشيِّدَ قراءته عليه، كواحدة من تعددية قرائيِّة ربما بدت لا نهائية. ولذا ما عادت مركزيّة النقاش والجدل حولَ التأصيل لمرجعيات الخطاب الشعري الحديث ذات حضور طاغ في الكثير من الصفحات الثقافية والدوريات المختصة التي تصدرُ في العالم العربي، فيما لو قورنَ الأمرُ بما كانت عليه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث أنصرفت جلُّ اهتمامات النقاد، وإن شابَ الكثير من الحذر غالبية خطاهم، للنظر في الحفريات المعرفية لسؤال الحداثة، الذي ظلَّ متأرجحاً، في الأعم من طروحاتهم، بين موقفين متضادين رأى الأولُ أنَّ هذا السؤال هو لحظة انعطافةٍ تاريخية تسعى لتشييد فرضيات وقيم جمالية جديدة، فيما عدَّه الموقف الثاني وأداً لمنظومات فكرية يقينية مشيَّدة في العقل الجمعي وفعلاً تدميرياً هدفهُ خراب الذاكرة، ثمَّ بحث عن انقطاع الجذور الفلسفية لمظاهر حداثة النص، في محاولة لإثبات عدم أصالتها. أمَّا ما نشهدهُ اليوم من انحصارٍ في النقاش والتنظير لمقولات ونصوص ما بعد الحداثة فلعلّه عائدٌ لما حدث من خلطٍ ما بين اصطلاح ما بعد الحداثة postmodernism المتَّصل معناه بكل ما له علاقة بانماط وأشكال الثقافة المعاصرة ومصطلح ما بعد التحديث postmodernity والذي يعني دراسة ظواهر وأنساق فكرية وضعت منظومة المفاهيم والقيم العليا موضع التساؤل والتشكيك، مما ولَّدَ هاجساَ من عدم الإعتقاد بمآلات هذا الاتجاه وما يضمره من افتراضات ضمنية قصدت قولبة مسيرة تاريخ الأدب وتأطيرها بأطر مرحلية، كمقدمة لوضع راهنية الزمن الثقافي داخل حاضنة فكرية تعزله عن واقع المعترك الحياتي المعيش. فضلاً عن ذلك حدث خفوت في الموقف الصراعي المرافق لروح التمرد والتجاوز، التي حملها تيار الحداثة، ولاسيما بعد نجاح قصيدة النثر في اختراق صلابة هيكل الذائقة الأدبية والنقدية، حيث فرضت نفسها كخيارٍ ابداعي انساني يلامس متطلبات الحياة الجديدة. ولكن علاقة قصيدة النثر بجوهر قضية الحداثة بقيت على طبيعتها الإشكالية من جهة طبائع قراءتها بوصفها “تقدِّمُ انحرافاً شعورياً وفكرياً مختلفاً، ورؤية مخالفة للعالم خارجة على أخلاقياته وقوانينه”2، ومن جانب ما تخلقهُ من مسافات بين عالم النص وعالم التلقي، مسافات تخلخلُ حيثيات التلقي وتفترضُ تساؤلاً جدلياً يتمحورُ في : هل القاريء قناعُ الكاتب أو العكس هو الصحيح؟

   ديوان الشاعرة أمل الجبوري الموسوم (تسعة وتسعون حجاباً)3، المُعدُّ من النتاجات المهمة التي قدَّمتها شاعرات قصيدة النثر العراقية، والحائز على جائزة الابداع من النادي العربي اللبناني في باريس العام 2003 ، هو ما تروم هذه القراءة تنقيب معانيه وتلمس ما تموضع فيه من مكامن أو ذخائر قرائيِّة و علاقات بين الذات واللغة الإشراقية المرمَّزة، عالية التكثيف، التي سادت على النصوص واتخذت من أرومة التاريخ وتشعباته الدالة حقلاً إشارياً موحياً ومنظومة علاماتية شكَّلَ استدعاؤها أهم مؤن النص ومعانيه  للإشتباك مع قيم الراهن وتعرية ما أنتجه من مؤسسات.

أيُّها الحجابُ ما أنتَ وكيف شكلُكَ

ومن تكون ؟

هل أنت مقيمٌ في البَشَر ؟

لا، فالمرءُ نومٌ وأنت لا تُغمِضُ عينيك .

هل أنت مقيم في الطير ؟

لا ، فالطيورُ هِجرْةٌ وأنت باقٍ حيث أنت .

هل انت مقيم في الورد ؟

لا ، فالوردُ موتٌ وأنت حيٌّ إلى الأَبَد . (حجاب الحجاب)

   تثيرُ مفردة الحجاب مرجعيات ونظم علاماتية ذات وظائف تتصل بحيِّز كبير من التداعيات في المعنى، إبتداءً من تلك المنوطة بمسار الحدس (الستر، الوقاية، المنع، الإحالة…) وصولاً لما تقودُ إليه سعة مساحة تأويلها، والتي تخصِّب الوجه الدلالي للنصوص بمنظومة إشارية تتعالق  فيها مفهومات من قبيل (التواري، الإنسحاب، الضمور، الصمت) وغيرها مما يفضي إليه التداعي مع الموروث الرمزي للكلمة. وإذا بدأنا من عنوان المجموعة (تسعة وتسعون حجاباً) بوصفه أولى العلامات التي شكَّلَت نواة دلاليَّة منحت المتلقي أهم مجسَّات توجيه القراءة فسنجده ينهضُ بدلالة مزدوجة تتبنى أولاً: سياقات القراءة البرَّانية لما تحمله مفردة الحجاب من علاقات استبدالية يمكن لبعضها أن يحلَّ محلَّ الآخر، و كذا الرقم تسعة وتسعون وما له من أبعاد ميتافيزيقية مشوبة برائحة القداسة أو ذات العمق الاسطوري. وتقومُ ثانياً بانتاج شفرات النص الداخلية عبر لغة ومخيِّلة غنيَّة لا تقمع المتلقي على الرغم مما طغى عليها من نزعة فكرية مجرَّدة، وأنا متسائلة عنيت باشاعة جوٍ من التوتر المعرفي و وضعت أصالة الغيب والوجود موضع النقاش. وقد بدى كلُّ نصٍ من نصوص الديوان وكأنَّه بحثٌ دؤوب عن قيمة الاختلاف و التفرد، وهو في الوقت ذاته اشتغالٌ لغوي على سيماء نصٍ آخر تتوقف مديات استحضاره على سعة قابليات التلقي في بحثها عن لغة متوارية تبدأ مع نهاية اللغة الحاضرة للنص.

الديوانُ مقبرة

والقصائدُ قبورٌ في اجساد مختلفة،

بلدانٌ وحكايات

وأقداحٌ ممتلئةٌ بوهم يبدو حقيقةً

ووعدٍ يبدو كأنه السراب .

لكنَّ في تلك الحُجُبُ قبراً ما

حينما أهمُّ بفتحه لا أعرف أيةَ جثة للسَّر واريتُها فيه

ولا أجد غير المجهول في وجوه تلك الحُجُبُ . (حجاب إينانا)

   إنَّ أوَّلَ ما يستوقف المتلقي في على نصوص الديوان هو أنَّ أنساق البناء الدلالي والتركيبي الذي بدت عليه فهي تموِّه بكونها نصَّاً واحداً يسعى لإقصاء روحيِّة الراهن وتهشيم أنساق المتداول، وهذا ما ذهبت إليه د. ناهضة ستار في قراءتها للمجموعة، حيث رأتها نصاً واحداً تقطَّعَ تحت عنوانات، نصوص مفترضة، و عدَّت الأمر تناصَّاً قصديِّاً مع الفكرة ذاتها في نصين: الأوَّل هو حديث الإسراء والمعراج: اخترق سبعين ألف حجاب وكلُ حجاب له اسم مثل الدخان والثلج والجبروت والملكوت والجلال والجمال.. الى أن يصل الى آخر حجاب وهو حجاب الغفران وإذا بالنداء من قبل الله تعالى، يا ملائكتي ارفعوا الحجاب الذي بيني وبين حبيبي محمد. أما النص الثاني فهو للنفري في موقف حجاب الرؤية: أوقفني وقال لي الجهل حجاب الرؤية أنا الظاهرُ لا حجاب وأنا الباطن لا كشوف، وقال لي من عرف الحجاب أشرف على الكشف4. وتتفقُ هذه القراءة مع ما ذكرته د.ناهضة في كون دلالة الحجاب اكتسبت داخل النصوص قيماً تعبيرية تعلقت بقوة بغيرها من الدلائل الداخلة في تساؤلات عميقة وقديمة مع بنى وأنساق المجتمع الثقافية و مدوَّناته الدينية. على إنَّ كلاً من تلك النصوص/التساؤلات حقق لنفسه إطاراً شعرياً مستقلاً عن سواه، على الرغم من وحدة ما دارت حوله من موضوعات انصرفت لقراءة الحاضر من ممرات الماضي، ولملاحقة وتتبع السؤال الفلسفي والإلحاح على كينونة الذات في غياب الأشياء وعلاقتها بالشرط النهائي لوجودها. وإذا عدنا الى نص النفري فسنجده لا يتقاطع مع المرجعيات ـ كما هو الحال في نصوص الديوان ـ وإنَّما يتخذها أساساً للتداعي معها، لأن جوهر المبنى المعرفي الذي قام عليه النص الصوفي يرتكز أصلاً على فرشة روحانية تحاول الاقتراب أو الفناء في ذلك البعد الغيبي المتواري، وإعادة اكتشافه ثمَّ استغواره في الذات. بينما تدخلُ حُجُب أمل في نقاش مع تلك المرجعيات، تتحقق منها، تأتلف معها لغة وتختلف على مستوى الرؤيا والوجود، و تتوق لإنشاء نصٍ يناقض تلك الخزائن بقطيعة من نوعٍ خاص، يخرق المواريث وكأنه كما يقول أدونيس ” نصٌ يلغي المسافة بين النص والمقدَّس”5.

كنتَ الاَمينَ على الأرض

فيما كان أخوك فرداً من قطيع ماشية

أَلأجلِ هذا شَعَرَ الربُّ بذنبه حيالَ هابيل

فرمى بأضحياتك إلى غضبك

ثم سقَط وجهُك

الذي ساقك إلى دم أخيك .

دمه الذي صار بَعْدُ

بُعْدَ الجريمة

هو نفسه الذي رماكَ إلى ذنْبِك .

لكنه سوَّرك بتعاويذه

وجعلك تفتضُّ فَرْجَ التراب

ليشهدَ فُرجَة أخيك ،

فأيُّ جنون  استحوذ على الرَّب

ليجعل من خطيئتك فَرَجَك . (حجاب قايين)

هناك تلازمٌ إذاً بين الفكر والشعر والمرجعيات الثقافية يماحكُ كلُّ طرفٍ منها الآخر عبر شبكة علاقات تبادلية تنشأ بين اللحظة الشعرية المنبثقة من أنساق لغوية، والأخرى الفلسفية القائمة على رؤى وتأملات. وحين تطغى الأولى يخرجُ النص على النسق التاريخي ولا يخضع لأيِّ تصورٍ قبلي، أي إنَّ مداليله تفتكُ بكلِّ ما هو مؤسسٌ خارجها لتحرر المفارقة الشعرية من أيِّ وجود سابقٍ. أما تقهقرُ اللحظة الشعرية فيعني بروز تصورات ذهنية كثيفة تحفز المتلقي فيما تطرحُ من استفهامات تتخطى حدود اللغة الشعرية لتبلغ مستوى العقلية الفلسفية التحليلية، وتنبري لاشاعة روحَ الإنعتاق من تمظهرات السلطة على اختلاف وجوهها، ولاسيما الوجه السياسي المضطهِد والآخر الميتافيزيقي المغلَّف بحصانة المقدَّس. إنَّ قراءة الديوان على أساس خلفيته الفكرية المضمرة، وما طفح منها على لغته من استطرادات سردية ومواقف وجودية تقود المتلقي للاصطدام بوحدات ومقومات دلالية تتمدد خارج أطر المعنى الشعري لتدخل في علاقة عضوية لا تفصل بين اللغة الشعرية وما يتشاكل معها من بنى ومضامين نثرية، كما في الجملتين الشعريتين:

أن تكون

حراً في مالاتريد …حجابٌ

أن تكون مقيداً في ما تريد …حجابٌ. (حجاب الشهيق)

حيث تنقلنا الحركة الذهنية الى فضاء حكائي و صورة تختزلُ كل عناصرها في نسق تعبيري فكري ذي وظائف عقلانية، إلا إنَّ الإتجاه الذهني الصرف لم يضعف هنا من شعرية الصورة، والتي أنتجتها بنية التضاد بين الرؤيا العقلية والبناء الشعري.

   من المعروف إنَّ جلَّ البنى النظرية لقصيدة النثرـ على قلَّتها ـ لم تقوِّض المفهوم العام لمقومات اللغة الشعرية وأدبيتها بوصفها في النهاية خدعة نحوية دلالية، ولا ما حدده جان كوهن6 لهوية الانزياح كأبرز سمات النص الشعري وأهم وسائل أدبيته، إذ حصره بدائرة الخروج عن مستويات اللغة العادية، أو بخرق ما هو سائدٌ من قوانينها ومبادئها. على إنَّ مدارات شعرية قصيدة النثر ترمي بأحابيلها أحياناً  لما هو أوسع من تحديدات وثوابت اللغة، إذ تتجلى في مظاهر اسلوبية لا يحدث فيها خرقٌ لماهية و قواعد النسيج اللغوي وإنما لتراكيب وصور نسقية ودلالية يؤدي كلٌ منها وظيفته في التداعي وموضعة الصورة الانفعالية خارج السياق اللغوي. ومن ذلك بُنى التشكيل التكراري على اختلاف طبقاتها (من الكلمة الى الجملة) وما تولِّده من أنساق انتظام ما أن تكسرـ بتحقق مصير السياق التكراري ـ حتى يبزغُ ذلك الانزياح الشعري غير الماثل موضوعياً في لغة النص. و تتضافر في نظم التكرار تراكيب بنائية (نحوية/بلاغيِّة)، فضلاً عن تكرارات لظواهر وصور تسهمُ مجتمعة في إثراء مستويات التأويل على اختلاف طبقاتها (مقاصد الكاتب، مقاصد النص، مقاصد القاريء) وتعدد أنساق التضاد الشعري في اللغة والدلالة، حيث يمنح وجودُها النصَ بؤر دلالية جوهرية وأخرى عرضية تسهم في إثراء المعنى، فيما يؤدي غيابها لانهدام ذلك النسق وبروز قيمة رمزية لانقطاع فاعلية المكرر كضرورة فنية، فالتكرار داخل النص الشعري كما يراه عز الدين السيِّد هو “أداة لتصوير حالة نفسية دقيقة أو مجرى اللاشعور من إنسان مأزوم بكلمة أو صورة أو موقف استدعاه وعيه من الماضي”7.

في بلد غريب ،

التقَتْ كفُّ غريبةٌ بوجهٍ غريب

حاولا أن يوحدا العالَمَ في دفء غريبْ

فصارت الكف ُّ لغةَ الغريبْ ،

لينامَ الوجهُ وحيداً في صمتِ الغريب . (حجاب الغريب)

المفردة المكررة على اختلاف تراكيبها النحوية تشكِّلُ داخل دائرة المعنى أحدى أهم الركائز الدلالية لبناء الصورة الشعرية، ولا سيَّما من زاوية تشاكلها مع الأبعاد الرمزية للاغتراب وما تركهُ على الصورة من أثار و تراكمات أدَّت الى تكثيف الإحساس بالغربة وشحنت النص بطاقات شعرية أكبر.

لقد تكررت مفردة الحجاب في الديوان مئة وأربعٍ وعشرين مرَّة بتضاعيف لغوية وصيغ صرفية مختلفة، ابتداءً من تواري كلِّ نصٍ من النصوص وراء عنوان/حجاب أوَّل، مروراً بتشظي تلك العلامة الأولى الى اشارات/حُجُب أخرى، وانتهاءً بتحوَّل ذلك التناسل الرمزي للمفردة الى رحمٍ خصيبة لانتاج علاقات وانساق دلالية يصطبغُ كلٌ منها بطابع شعري يتباين في مدى اتفاقه أو تناقضه مع تخمينات التلقي.

الحجابُ عُنْقٌ تدلَّت منه أنهاري ، جنوني

حروبي وفتنتي الموؤودةُ بالحرامْ

الحجابُ خطيئتي التي تحجّ إلى كعبة الجسد

لكنَّ الوشاياتِ عرباتٌ بخيول جامحة تنتهك الحجابْ .

الموتُ وجهُ الحجاب المثقوب بالشَّك

والحياة مرآة الحجاب المطرَّز باليقين.(حجاب الانتهاك/حجاب اليقين)

   وإذا كانت محاولات تفسير النص هي ما يمنحه خاصيته الفنية فإنَّ المتصفح لنصوص الجبوري يجدها تمتصُ مرجعياتها بانساق لغوية طيِّعة وباساليب لا يقدِّم الكثير منها شعرية صرفة إلا إنَّها تنأى عن التقريرية أو السطحية، فتوفر للنص هامشاً من البساطة، وتترك للمتلقي حق المبادرة والإجتهاد في ملأ فراغات النص اقتحام تلك المرجعيات واعادة تشييدها لبناء سلسلة مرجعياته أو عالمه الافتراضي الجمالي الناتج عن فعل القراءة. ولذا لم تخيِّم على هوية المعنى حُجُبٌ من التعمية والالتباس، كتلك التي نراها على تجارب أخرى في قصيدة النثر تأثرت الى حد كبير بما خلَّفه الحراك الفلسفي والفكري الذي رافق تيار ما بعد الحداثة فقدمت نصوصاً بلغةٍ عامرة بمعرقلات الانسجام مع التلقي، مما جعلها مدونة مستغلقة غير مدركة المرامي.

   تتآزرُ في التسعة وتسعين حجاباً تقنيات الوظائف الجمالية للَّغة في المعجم التركيبي/الدلالي بوصفها منظوراً ورؤية وليس كوسائل صامتة، فضلاً عن بنية الجملة وحركة الضمائر داخلها، ثمَّ البنية الإيقاعية واستثمار الطاقة الذاتية للأصوات، لإبراز أجوبة شعرية على بعض المهيمنات الفكرية التي شكَّلت بؤراً معرفية لابد للمتلقي للإنتباه إليها والتعاطي معها. وإنَّ البنية العامة لهذا الديوان وبصرف النظر عن تفصيلاتها، تتوالج داخل إطارين  أساسيين لعبت فيهما الأنا دوراً محورياً، وهما:

ـ االذات الشعرية مقابل صورة الأنثى

   صورة المؤنَّث هي سقف النصوص وأرضيتها الواسعة، التي ظهرت على امتداد الديوان، ولم تكن ذات وجودٍ عائمٍ، وإنما كان حضورها احدى أهم الركائز الإنفعالية مدعاة التأمّل، كونها صورة الأنا التي توهَّجت بمفردات تحاكي ضرورتها كشرط بقاء الوجود البشري وانتقاله من الكمون الى التحقق، وقد أثقلت التلقي بخلفيات يجب استحضارها، مما جعلها من أصعب الإشارات مرجعية. ولعلَّ أهم ما ميَّز شاهد الأنثى لدى الجبوري هو توخيه هدم النظام الهرمي السلطوي والتداعي مع الموروث عبر تأثيث الذات بمواجهة الآخر، أو الدفاع عن وجودها وتقديمها كمسافة توترٍ وتنافر بين ثنائيات ينتجُ كلٌ منها الآخر كالإمكان/الإنجاز، المجاز/الحقيقة، الخارج/الداخل.

حينما انسحب الله من جسد مريم

ترك  نُدوبَه

ألغاماً ووروداً .

لكنه خلق لنقيضها

لسانين اثنين

الأول يسكن النور كاشفاً ألغامَه ،

والآخر يسكن الظلمة مُمسكاً بالألغام ،

فَرِحاً بسَكرة الموت . (حجاب آدم)

وقد بسطت الاسطورة شيئاً من اشاراتها على خطاب المؤنث إذ أثرت بعض النصوص باشارات وتعابير لغوية جزئية مألوفة، وأخرى تبطنُ إيماءات ورؤى حرصت على بلورة آفاق التلقي باتجاه العودة بذلك المؤنث الى عمق ما له من أرضية ميثيولوجية هيمنت على تدرجات المخيلة الإنسانية/الشعرية على اختلاف ما مرَّت به من حقب وعصور، حيث اتخذت إلهة و جُعلت في الحضارات القديمة (السومريون/عشتار، المصريون/إيزيس، الأغريق والرومان/فينوس وأفرديت) شرطاً نهائياً لكل ما له علاقة بالخصب والنماء.

إن كنتُ ناراً تَلْهَبُ

فلأنَّ رَحِمَ عشتار قَذَفَتني في حضن عناة ،

وبين ثَدْيَيْ إيزيس

إن كنتُ ناراً تَلْهَبُ

فلأني سَحَبْتُ الصحراءَ إلى منطق العشب

فأورَقتْ بالبراق

وأثَمرتْ بي سدرة النساء .

إن كنتُ ناراً تلهبُ

فلأنّ هواي في قلبه كان عروتَه الوثقى. (حجاب عائشة)

ولكنَّ آليات الدمج الدلالي بالاسطورة، التي حاولت عبرها لغة النص ملامسة تخوم عميقة في الرؤيا وتقوية المعنى المراد، لم تكن ناجحة أو موحية في استعادة أمثولة الاسطورة بوصفها مظهراً اشارياً متلاحماً مع نسيج النص، تتغيَّرُ على أساسه مسارات الرسالة الشعرية، ولذا ما كانت الاستعانة بالبعد الرمزي الاسطوري متجاوزة كثيراً للمعنى الاصطلاحي الوضعي، مما حوَّلها الى عامل من عوامل ضعف و رخاوة المعنى. لقد استُعِيرت مهيمنة الأنا/المؤنث في الديوان كوسيط رمزي ذي قدرةٍ على النماء وأداة دلاليِّة كاشفة عن ازدواجيّة المواقف حياله، وكأنها رمزٌ لتشاكل العلاقة بين الفن/الواقع/الحياة، أينما تستنبت وتنمو أهم المتناقضات. ولم يكن خطاب ذلك المؤنّث/الحجاب إلا تعبيراً إشارياً مكثفاً يضحي في غير موضع بجماليات اللغة الشعرية لحساب المستوى التحتي لإنشاء معاني عقلية مجردة، وهنا تنغلق نافذة الصورة الشعرية، فيبحث القاريء عن ممرات أخرى يمكن من خلالها الولوج الى شعرية النص. ومن هنا كان أهم ما خلقته صورة الأنا/المؤنث على مستوى اللغة هو القدرة على إستيلاد المعاني والتعدد في إنتاج الدلالات العقليّة. و تجدر الإشارة الى أنَّ إشارات الإنبهار بهذا المؤنّث ذات خاصيّة ذكوريّة إسقاطيّة ينعكسُ من خلالها منظور اللآخر كفحولة مقابلة مطلقة، كما نقرأ في الكثير من النصوص النسوية.

ـ تحولات المكان في الذات الشعرية

   نصوص عديدة ضمتها دفتا الديوان تلتبسُ فيها الأنا بمواجهة المكان وتدخلُ في حوارٍ مع ما طرأ على تواريخهِ من تحولات، أمكنة لا تظهر كعلامة ثابتة تشيرُ الى أبعاد مشهدٍ أو نسقٍ بعينهِ يحملُ المعنى ذاته أينما ظهر، ولم تكن متناظرة حد التشابه مع وقائعها الخارجية، فقد نزعت صورتها في النص أحقية وجودها السابق وكأنها تتخلى عن مرجعياتها في محاولة لتعويض واستحضار ما غاب عنها من أجزاء، و هنا يبزغُ نوعٌ من الوئام بين الأنا والمكان وينافذ كلٌّ منهما الآخر.

المدن نساءٌ أو ثكنةٌ عائدين من حرب غامضة

طريقٌ سريعة لشهوة عابرة ،

أو جِماعٌ  أبدي .

المدن أحزابُ يسارٍ ،

أو أفكارُ يمينٍ

المدن تقنية لزمن مبتورْ .

لكنَّ بيوتَك التي تلبَسُ وجه تريم ، سيئون وشِبام

توقظ غفوة المعمار بعيون شبابيكها ،

ولغز أبوابها

وترابها الذي يختزل عطرَ البخورْ. (حجاب البيوت)

 يستحلبُ المقطع السابق صور المدينة و تتولد شعريتهُ من سعة المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول (المدن/ما تشير إليه)، حيث يبرز حجم التناقض والمفارقة في المزاوجة بين مرجعيتين الأولى هي مظاهر المكنون الحياتي للمكان وما يختزله من ملامح وعلاقات انسانية تترابط حيناً وتتنافر تارة. والثانية هي المستوى الإشاري المتخيَّل للمكان وظهوره كوجود مستقل ينسلخ عمَّا يقع خارجه من مرجعيات. فالمدن التي يرسم صورها النص تتشكل عبر كسر المدار الدلالي المتوقع لها أن تقع فيه. وإذا أعدنا النظر في المبنى اللغوي للنص نجده مفرغاً تماماً من عناصر حركية الزمن، إذ ينسحب فيها أداء الفعل وتبرز تراكيب الجملة الاسمية (صفة/موصوف)، فضلاً عن أساليب التكرار والتوكيد لتلك الوحدات النحوية الجامدة، بما يوحي بارتباط واقع تلك المدن بمظاهر السكون والشلل الحائل دون مظاهر التنامي، والذي يشي بدوره بضمور وانهيار الأنا المتداخلة ضمناً مع صور المكان، وكأنَّ كلاً من الطرفين يعيد صيغة الآخر. و في (حجاب بغداد) تفرَّغ أبعادُ المكان من محتوياتها فيتحوَّل الى أزمنة لتوثيقِ فجائعية المدينة، و يحدث تطابقٌ بين الأنا و المدينة:

غاب النهران عنكِ أيَّتُها المدينة

مثلَ اختفاء نهدين من جسد إلهة الجمال

دجلةُ نهدُك الأيمن

هجر البيتَ وترك بابك وحيداَ

والفراتُ نهدُك الآخر ارتحَلَ عنك عائداً إلى سمائه الأولى

دونما وعدٍ بولادةٍ قريبة .

من الملاحظ أنَّ الأفعال (غاب، هجر، ترك، ارتحل) تشكِّلُ نواة مركزية لاستقطاب دلالة الحدث الدرامي لفعل انهيار المكان/الأنا حسيِّاً ونفسيِّاً، بما يجعل المتلقي أمام الوجه الآخر المسكوت عنه في هذه الصورة، وجه يغيب في جغرافيا المدينة ويحضر في طبيعة علاقتنا بها.

   إنَّ تعرض أنماط التعبير الشعري الحديث لموضوعة هدم نسقية المكان ـ ليس بمعنى تخريب ما يشير اليه من دلالات وإنما بمفهوم تفكيك وتحليل ما توارثه من وحداته ـ لا يخضع لواقعية أو مرجعية الأمكنة، فالمدينة في النص لا تعني الجغرافية المنسجمة طولاً وعرضاً مع منطق وبرهان صورتها الخارجية وأحكام انتسابها لمحيطها الاجتماعي، وانما هي نافذة للمرور والتداخل مع الذات الشعرية أو ما يسمى بالمصطلح النقدي بـ (تأمكن الأنا) الذي يكسو الأمكنة أبعاداً عاطفية وانفعالية تجعل لها موقفاً من الوجود وتمنحها محمِّلات دلالية تطعم النسق الشعري وتوسع من آفاق التلقي. على إنَّ بعث الحدث الشعري عبر مسخ صفة المغايرة وتعميق صور الترادف بين الأنا والمكان، قد يبدو في النص سلاحاً ذا حدين، فهو في الوقت الذي يخصِّب النص جمالياً إذ يذوب في نسيجه البنائي، يقحمُ أحياناً اقحاماً زائداً فيشوِّه الصورة و يبدو حملاً مضافاً ينوء بثقله النص.

طريق تقذِفُ الذكرياتِ إلى

مستقبل يستطيل وينحني

ليتناسلَ في عمر شيَّخَتْهُ اللقاءاتُ السريعة .

الحاضرُ قادم من سومر

ومن بابل يأتي الآتي

وما ظَلَّ منهما

وما ظَلَّ منّا

غُربةٌ ، وصداقةٌ ،

في جسدِ سيدة غريبة ،

وشِعْرِ رجلٍ طليقْ .(حجاب الحاضر)

   لقد تعكَّزت غالبية نصوص التسعة وتسعين حجاباً على تركة ثقافية ومرجعيات دعت المتلقي لتحديد موقفه منها ومن السياقات الزمنية التي أنتجتها، كمقدمة لخلق صورة القاريء في النص وتوجيه مسارات الخطاب باتجاه الكف عن قراءة روحية العصر الراهن من نافذة مدونة تاريخية إشكالية. ولم تتحول فيها بنية النص اللغوية الى أداة تجريبية، على الرغم من كونها قد توترت بين مناخين متنافرين، تعددت وظائف العلامة اللغوية فيهما بتناقضاتها وأضدادها. المناخ الأوَّل هو نسيجٌ من علاقات ترابطية وسياقية سهلة تشذرَت على سطحها الدلالي إيماضات مجازية وأخرى اسطورية، ومنها ما بقي يراوح في جدلية الحاضر/الماضي وأيُّ الطرفين عتبة للمرور الى الآخر. والمناخ الثاني هو تضخم صور الأنا و وقوعها موقع القطب داخل حيِّز النص، مما أحدث انسحاقاً لكينونات أخرى، فهناك دائماً ذات مؤنثة محتجبة داخل سياقات النص تحدث تحوَّلاً في الخطاب الشعري أنَّى شاءت وتفلح كثيراً في إثراء المعنى بصور شعرية تصطاد الخاطف والعرضي، على إنها تهبط ببعض النصوص لدرجة تجعلها لا تعدو كونها حواراً داخلياً أحادي الضمير.

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. 1. Foucault, Michel (1984). Gespräch mit Christian Delacampagne»Der maskierte Philosoph«, in: Von der Freundschaft, Berlin: Merve, S. 9-24.

2 ـ قراءة الصورة، صلاح فضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2003، ص117.

3 ـ دار الساقي، بيروت، ط1، 2003.

4 ـ ينظر التناص وتقنيات المخالفة في حجابات أمل الجبوري، مركز النور، موقع ثقافي اعلامي فني مستقل، تاريخ النشر 24.02.2009.

5 ـ الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب، بيروت، ط2، 1989، ص67.

6 ـ ينظر بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص6 ـ 9.

7 ـ التكرير بين المثير والتأثير، القاهرة، 1978، ص 79.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *